آليات البناء التنظيمي
ركن الرأي
لم يكن النضال في العقدين الماضيين يتطلب أكثر من روح التجاوب والتضامن
مع معاناة الشعب الإرتري المعتقل داخل أرضه ووطنه ، ولهذا جاءت المشاركات الواسعة في
المسيرات والتظاهرات السلمية خارج الوطن، لعكس المعاناة التي طالت الشعب الإرتري جراء
سياسة القمع والتجويع والإخضاع القسري الذي تمارسه عصبة الهقدف ، ذلك أن عامل الوقت
قد إختلف والتجربة التي خاضها الشعب الإرتري بلغت مرحلة من النضج والوعي الإستباقي،
فحال ذلك وللأسف الشديد دون إستجابة الأجيال الإرترية الناشئة اليوم لداعي الكفاح المسلح،
إذ إكتوى بنارها الآباء من قبل ولم يجنوا ثمارها بعد، إن التعاطي مع مبدأ الإقتتال
مع العدو ودخول أرض المعركة مجدداً أمر يصعب إتيانه أو تكراره كما حدث في الستينات،
لأنه يتطلب المزيد من القناعة والشجاعة والرغبة في التضحية والفداء والإيمان بأن ذلك
هو الطريق الصحيح لنيل إستحقاقات وثمار المرحلة، وهو أمر إستحدثه الزمان حتى لم يعد
المرء منا يهتم بغير مصالحه الخاصة رافضين مبررات التعرض للأذى من أجل سلامة المجتمع
الذي ننتمي إليه.
ومن هنا ندرك عظم الأجيال الشبابية السابقة التي لم تتردد لحظة في دفع
ضريبة النضال من الوقت والجهد والمال ونفاءث الأرواح ، كما ندرك الفارق الكبير بين
جيل الآباء والأجداد وبين أجيالنا المعاصرة، فالتربية والنشأة والبيئة الإجتماعية المحيطة
اليوم مختلفة الى حد أنها لم تعد تنتج نمازج بطولية في قامة أجيالنا التي ثارت في الستينات،
ومع ذلك فإن الدماء الحارة التي باتت تغلي في عروق شبابنا اليوم لهي مشروع نمازج حية
للبطولة القادمة التي تؤكد وبلا أدنى شك إمكانية العودة الحميدة لمربع النضال، ذلك
أن الشرائح الشبابية اليوم باتت تريد وبكل قوة رفع اللواء والإقتداء بجيل الأباء، وهي رسالة أخلاقية أخذت تسري في وجدان الأمة الإرترية
وتنضج في نار هادئة رويداً رويداً خلال عقدين من الزمان بعد الإستقلال، ليبقى العقد
القادم هو المحك لأنه يعتبر البوابة الرئيسية لواقعنا النضالي الجديد ، الذي تصطف فيه
أجيال الستينات والسبعينات والثمانينات في مشهد تلاحم فريد يعيد للتأريخ الإرتري صياغته
ويعلي للتضحية والفداء قيمها التي كادت تضمحل وتتلاشى. ومع ذلك لازلنا نعتقد أن أمر
النضال لن يتم تمامه دون إكمال الشروط الموضوعية اللازمة لحدوث شرارة التغيير الديمقراطي
إستنهاضاً لإرادة الشعب الإرتري، وهي شروط يصعب تجاوزها أو الإنطلاق بدون الإجماع الكامل
حول قيمها التنظيمية الآتية:-
أولاً : منح الشعب إعتباره ككيان تنظيمي يتمتع بشخصية
معترف بها أمام القانون:
إن التعددية التي تعتبر أساس الديمقراطية، لا تعني فقط تعدد الأحزاب والقوى
السياسية عند تداول السلطة بقدر ما أنها تعني إستحالة تحقيقها (أي التعددية) إلا عند
منح الشعب إعتباره الديمقراطي ككيان تنظيمي متعدد الإنتماء الثقافي والعرقي والديني
،إذ أن تحقيق شرط التعددية يستدعي مشاركة كل فرد من أفراد الشعب الإرتري في السلطة،
لأن الوصول لمعنى التعددية يقتضي
توسيع المشاركة لتشمل كل من له مصلحة في الحكم ، فهل الأحزاب السياسية
فقط هي التي لها هذه المصلحة ، أم أننا أسقطنا ركناً هاماً كالشعب صاحب النصيب الأوفر
من تلك المصلحة، إن غياب هذا الركن أدى الى قيام الآليات الحديثة للتنظيم
الديمقراطية على النهج الزائف الذي يسعى لإختزال كل من له الحق في المشاركة، في صورة
التعدد الكاذب للأحزاب السياسية التي لايزيد تعداد منسوبيها الآلاف إن لم نقل المئات،
فكيف نستطيع بهذا التعداد البسيط تحقيق قيم التعددية التي تعتبر بحق أساس الديمقراطية
بينما نتجاهل الملايين الممثلة لتعداد الشعب، إننا لا ننكر أن مشاركة القوى السياسية
لتحقيق مصلحتها التنظيمية حق ديمقراطي ولكننا نقول بأنه لايمثل كل الحقوق ولايعبر بحال
من الأحوال عن مشاركة الشعب بتعداده الكبير في سلطة إتخاذ القرار.
وبالتالي
يجب أن ينتهى بنظرنا مبرر الحكم الديكتاتوري الرافض لوجود الشعب ككيان له إعتبار قانوني
وتنظيمي داخل الدولة، لأن تعداده يؤهله لإتخاذ القرار وحسمه لصالحه ،إن الأوان قد آن
لمنح الشعب الإرتري إعتباره الديمقراطي إثباتاً لحق وجوده وإعترافاً بشخصية كيانه القانوني .
وإنطلاقاً من هذا الوعي نتوقع أن توضع هذه الدعوة لتحرير الشعب الإرتري
– بعد طول معاناته من تدني مرتبته التنظيمية الى مستوى الحضيض – موضع التنفيذ في أجندتنا
النضالية ، إذ أن ذلك من متطلبات نهوض المجتمع الإرتري وتطوره الى مستوى المرتبة التي
تليق به كبشر .
ثانياً : الإستقلال يعني إستقلال الإرادة الشعبية وعدم خضوعها لقبضة الإرادة
السياسية خارج إطار القانون إن الدعوة للإستقلال بصفة عامة تعتبر دعوة لفصل كيان عن آخر سواء كان
هذا الكيان فرد أو شعب أو أمة ، ولا يمكن لذلك إطلاق كلمة الإستقلال على كيان لازال
يعاني من الخضوع والتبعية والدونية لكيان آخر غيره، وبالتالي من المستحيل أن يحقق كيان
ما شرط الإستقلال إلا إذا إستقلت إرادته بصورة عامة وخاصة، بمعنى أن إستقلال الشعب
الإرتري عن الشعب الإثيوبي لا يحقق شرط الإستقلال طالما أنه لازال يخضع لإرادة كيان
آخر يمارس عليه كل الأساليب التي كان يعاني منها أثناء إرتباطه بإثيوبيا ، حتى وإن
كانت الدولة الوطنية هي التي حلت محل المستعمر مما يعني أن السكوت على ممارساتها ونظرياتها
الإخضاعية يعتبر تنازل صريح عن قيم الإستقلال ومبادئ تحرير الإنسان وتكريمه .
ذلك أن نجاح الأدوار السياسية للدولة
لا يتوقف على نجاح مبدأ إلغاء دور المشاركة الشعبية داخل آليات الدولة ، ومن ثم فإن
تفشي هذا المعنى في البناء التنظيري للدولة قد أدى الى طغيان الإرادة السياسية الحاكمة
والى بلوغها مرحلة الصدام والصراع المستميت مع الإرادة الشعبية، التي من حقها أن
ترفض هذا التوجه الديكتاتوري للنظام الحاكم، وممازاد الطين بلة هذا الظهور الصارخ
للقوى السياسية الطامعة في تحقيق هذه المعادلة الإستعمارية للمسار الديمقراطي
لدر مكاسبها السياسية والشخصية الضيقة دون الكشف عن حقيقة رغبتها الديكتاتورية.
ومن هنا ندعوا الى تصحيح مسار العملية التنظيمية برمتها لتعبر عن قيم
الإستقلال الحقيقي الذي يمنح الإرادة الشعبية للمجتمع الإرتري إستقلالها الكامل ، وبالتالي
لن تحتاج لمن يمارس عليها سلطة الإخضاع والتركيع من خلال شعارات المسار الديمقراطي
الكاذب للنظام الحاكم، ذلك أن آدمية الإنسان الإرتري لن تكتمل وإرادته لن تتحرر مالم
نقتلع من الجزور أي عائق تنظيمي يمارس عليه سياسة القمع والإسترقاق ، ولعل المجتمع
الإنساني في مراحل سابقة تقبل وعلى مضض مبدأ القمع والإسترقاق لإرادته لكون
القوانين التي كانت تحكمه صدرت من مرجعية النظام الديمقراطي الذي دشنته الآلة الغربية
المتوشحة لمظهر التقدم والتحضر، لكن سرعان ماكشفت التجربة المريرة التي يخوضها الإنسان
داخل البناء الديمقراطي الزائف حقيقة الوضع الإستعماري الجديد المتوشح لثياب العولمة
والتمدن والرقي الكاذب ، فكان الخيار أمامنا أن نكون أو لا نكون ، أي أن نبني ديمقراطيتنا
الإرترية وفق مايتناسب وأخلاقنا وعاداتنا وثقافاتنا الخاصة أو نتسول ديمقراطية الآخرين
دون أن نراعي كرامة شعبنا وسيادته وثقافته، بمعنى أن نختار بين أن تستقل إرادتنا الإرترية
أو تتمرق في وحل التبعية والحياة الزليلة
.
في الحلقة القادمة سنكمل مابدأنا حول القيم لنتناول النقاط التالية :
ثالثاً : الحرية قيمة لا تتحقق على أرض الواقع إلا بعد نيل الشعب إستحقاقاته المتمثلة في الكرامة
والتمتع بمميزات السيادة .
رابعاً: السلطة هي الطريقة التي يحقق بها الشعب إرادته ويثبتشرعيته ويؤكد وجوده.
بقلم : رئيس التحرير
أبوعادل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق